الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (باب الحرة تحت العبد) أي جواز تزويج العبد الحرة إن رضيت به، وأورد فيه طرفا من قصة بريرة حيث خيرت حين عتقت، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الطلاق، وهو مصير من المصنف إلى أن زوج بريرة حين عتقت كان عبدا، وسيأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ عَتَقَتْ فَخُيِّرَتْ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فَقِيلَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ قَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ الشرح: قوله (باب الحرة تحت العبد) أي جواز تزويج العبد الحرة إن رضيت به، وأورد فيه طرفا من قصة بريرة حيث خيرت حين عتقت، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الطلاق، وهو مصير من المصنف إلى أن زوج بريرة حين عتقت كان عبدا، وسيأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى *3* لِقَوْلِهِ تَعَالَى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَام يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَعْنِي مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ الشرح: قوله (باب لا يتزوج أكثر من أربع لقوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع) أما حكم الترجمة فبالإجماع، إلا قول من لا يعتد بخلافه من رافضي ونحوه، وأما انتزاعه من الآية فلأن الظاهر منها التخيير بين الأعداد المذكورة بدليل قوله تعالى في الآية نفسها (فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة) ولأن من قال جاء القوم مثنى وثلاث ورباع أراد أنهم جاءوا اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فالمراد تبيين حقيقة مجيئهم وأنهم لم يجيئوا جملة ولا فرادى، وعلى هذا فمعنى الآية انكحوا اثنتين اثنتين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فالمراد الجميع لا المجموع، ولو أريد مجموع العدد المذكور لكان قوله مثلا تسعا أرشق وأبلغ، وأيضا فإن لفظ " مثنى " معدول عن اثنين اثنين كما تقدم تقريره في تفسير سورة النساء، فدل إيراده أن المراد التخيير بين الأعداد المذكورة، واحتجاجهم بأن الواو للجمع لا يفيد مع وجود القرينة الدالة على عدم الجمع، وبكونه صلى الله عليه وسلم جمع بين تسع معارض بأمره صلى الله عليه وسلم من أسلم على أكثر من أربع بمفارقة من زاد على الأربع، وقد وقع ذلك لغيلان بن سلمة وغيره كما خرج في كتب السنن فدل على خصوصيته صلى الله عليه وسلم بذلك، وقوله (أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) تقدم الكلام عليه في تفسير فاطر، وهو ظاهر في أن المراد به تنويع الأعداد لا أن لكل واحد من الملائكة مجموع العدد المذكور. قوله (وقال علي بن الحسين) أي ابن علي بن أبي طالب (يعني مثنى أو ثلاث أو رباع) أراد أن الواو بمعنى أو، فهي للتنوع، أو هي عاطفة على العامل والتقدير فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وانكحوا ما طاب من النساء ثلاث إلخ، وهذا من أحسن الأدلة في الرد على الرافضة لكونه من تفسير زين العابدين وهو من أئمتهم الذين يرجعون إلى قولهم ويعتقدون عصمتهم. ثم ساق المصنف طرفا من حديث عائشة في تفسير قوله تعالى (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى) وقد سبق قبل هذا بباب أتم سياقا من الذي هنا وبالله التوفيق *3* الشرح: قوله (باب وأمهاتكم اللاتي أرضعكم، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) هذه الترجمة وثلاث تراجم بعدها تتعلق بأحكام الرضاعة، ووقع هنا في بعض الشروح " كتاب الرضاع " ولم أره في شيء من الأصول. وأشار بقوله " ويحرم إلخ " أن الذي في الآية بيان بعض من يحرم بالرضاعة، وقد بينت ذلك السنة. ووقع في رواية الكشميهني " ويحرم من الرضاعة " ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرَاهُ فُلَانًا لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا لِعَمِّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَيَّ فَقَالَ نَعَمْ الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ الشرح: حديث عائشة قوله (عن عبد الله بن أبي بكر) أي ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وقد رواه هشام بن عروة عنه وهو من أقرانه، لكنه اختصره فاقتصر على المتن دون القصة، أخرجه مسلم. قوله (وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة) أي بنت عمر أم المؤمنين، ولم أقف على اسم هذا الرجل. قوله (أراه) أي أظنه. قوله (فلانا لعم حفصة) اللام بمعنى عن، أي قال ذلك عن عم حفصة. ولم أقف على اسمه أيضا. قوله (قالت عائشة) فيه النفات وكان السياق يقتضي أن يقول " قلت". قوله (لو كان فلان حيا) لم أقف على اسمه أيضا، ووهم من فسره بأفلح أخي أبي القعيس لأن أبا القعيس والد عائشة من الرضاعة، وأما أفلح فهو أخوه وهو عمها من الرضاعة كما سيأتي أنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأذن له بعد أن امتنعت، وقولها هنا " لو كان حيا " يدل على أنه كان مات، فيحتمل أن يكون أخا لهما آخر، ويحتمل أن تكون ظنت أنه مات لبعد عهدها به ثم قدم بعد ذلك فاستأذن. وقال ابن التين: سئل الشيخ أبو الحسن عن قول عائشة " لو كان فلان حيا " أين هو من الحديث الآخر الذي فيه فأبيت أن آذن له، فالأول ذكرت أنه ميت والثاني ذكرت أنه حي؟ فقال: هما عمان من الرضاعة أحدهما وضع مع أبي بكر الصديق وهو الذي قالت فيه لو كان حيا، والآخر أخو أبيها من الرضاعة. قلت: الثاني ظاهر من الحديث، والأول حسن محتمل، وقد ارتضاه عياض، إلا أنه يحتاج إلى نقل لكونه جزم به، قال: وقال ابن أبي حازم أرى أن المرأة التي أرضعت عائشة امرأة أخي الذي استأذن عليها. قلت: وهذا بين في الحديث الثاني لا يحتاج إلى ظن ولا هو مشكل، إنما المشكل كونها سألت عن الأول ثم توقفت في الثاني، وقد أجاب. عنه القرطبي قال: هما سؤالان وقعا مرتين في زمنين عن رجلين، وتكرر منها ذلك إما لأنها نسيت القصة الأولى، وإما لأنها جوزت تغير الحكم فأعادت السؤال ا ه. وتمامه أن يقال: السؤال الأول كان قبل الوقوع والثاني بعد الوقوع، فلا استبعاد في تجويز ما ذكر من نسيان أو تجويز النسخ. ويؤخذ من كلام عياض جواب آخر وهو أن أحد العمين كان أعلى والآخر أدنى، أو أحدهما كان شقيقا والآخر لأب فقط أو لأم فقط، أو أرضعتها زوجة أخيه بعد موته والآخر في حياته. وقال ابن المرابط: حديث عم حفصة قبل حديث عم عائشة، وهما متعارضان في الظاهر لا في المعنى، لأن عم حفصة أرضعته المرأة مع عمر فالرضاعة فيهما من قبل المرأة، وعم عائشة إنما هو من قبل الفحل، كانت امرأة أبي القعيس أرضعتها فجاء أخوه يستأذن عليها فأبت فأخبرها الشارع أن لبن الفحل يحرم كما يحرم من قبل المرأة ا ه، فكأنه جوز أن يكون عم عائشة الذي سألت عنه في قصة عم حفصة كان نظير عم حفصة في ذلك، فلذلك سألت ثانيا في قصة أبي القعيس، وهذا إن كان وجده منقولا فلا محيد عنه وإلا فهو حمل حسن، والله أعلم. قوله (الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة) أي وتبيح ما تبيح، وهو بالإجماع فيما يتعلق بتحريم النكاح وتوابعه، وانتشار الحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة وتنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النظر والخلوة والمسافرة ولكن لا يترتب عليه باقي أحكام الأمومة من التوارث ووجوب الإنفاق والعتق بالملك والشهادة والعقل وإسقاط القصاص. قال القرطبي: ووقع في رواية " ما تحرم الولادة " وفي رواية " ما يحرم من النسب " وهو دال على جواز نقل الرواية بالمعنى، قال: ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال اللفظين في وقتين، قلت: الثاني هو المعتمد، فإن الحديثين مختلفان في القصة والسبب والراوي، وإنما يأتي ما قال إذا اتحد ذلك. وقد وقع عند أحمد من وجه آخر عن عائشة " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب من خال أو عم أو أخ " قال القرطبي: في الحديث دلالة على أن الرضاع ينشر الحرمة بين الرضيع والمرضعة وزوجها، يعني الذي وقع الإرضاع بين ولده منها أو السيد، فتحرم على الصبي لأنها تصير أمه، وأمها لأنها جدته فصاعدا، وأختها لأنها خالته، وبنتها لأنها أخته، وبنت بنتها فنازلا لأنها بنت أخته، وبنت صاحب اللبن لأنها أخته، وبنت بنته فنازلا لأنها بنت أخته، وأمه فصاعدا لأنها جدته، وأخته لأنها عمته، ولا يتعدى التحريم إلى أحد من قرابة الرضيع، فليست أخته من الرضاعة أختا لأخيه ولا بنتا لأبيه إذ لا رضاع بينهم، والحكمة في ذلك أن سبب التحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة وزوجها وهو اللبن، فإذا اغتذى به الرضيع صار جزءا من أجزائهما فانتشر التحريم بينهم، بخلاف قرابات الرضيع لأنه ليس بينهم وبين المرضعة ولا زوجها نسب ولا سبب، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ قَالَ إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ وَقَالَ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ قَتَادَةَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ مِثْلَهُ الشرح: حديث ابن عباس قوله (عن جابر بن زيد) هو أبو الشعثاء البصري مشهور بكنيته، وأما جابر بن يزيد الكوفي فأول اسم أبيه تحتانية وليس له في الصحيح شيء. قوله (قيل للنبي صلى الله عليه وسلم) القائل له ذلك هو علي بن أبي طالب كما أخرجه مسلم من حديثه قال " قلت يا رسول الله مالك تنوق في قريش وتدعنا؟ قال: وعندكم شيء؟ قلت: نعم ابنة حمزة " الحديث، وقوله "تنوق " ضبط بفتح المثناة والنون وتشديد الواو بعدها قاف أي تختار مشتق من النيقة بكسر النون وسكون التحتانية بعدها قاف، وهي الخيار من الشيء يقال تنوق تنوقا أي بالغ في اختيار الشيء وانتقائه. وعند بعض رواة مسلم " تتوق " بمثناة مضمومة بدل النون وسكون الواو من التوق أي تميل وتشتهى، ووقع عند سعيد ابن منصور من طريق سعيد بن المسيب " قال علي: يا رسول الله ألا تتزوج بنت عمك حمزة فإنها من أحسن فتاة في قريش " وكأن عليا لم يعلم بأن حمزة رضيع النبي صلى الله عليه وسلم، أو جوز الخصوصية، أو كان ذلك قبل تقرير الحكم. قال القرطبي: وبعيد أن يقال عن علي لم يعلم بتحريم ذلك. قوله (إنها ابنة أخي من الرضاعة) زاد همام عن قتادة " ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " وقد تقدم من طريقه في كتاب الشهادات، وكذا عند مسلم من طريق سعيد عن قتادة، وهو المطابق للفظ الترجمة. قال العلماء: يستثنى من عموم قوله " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " أربع نسوة يحرمن في النسب مطلقا وفي الرضاع قد لا يحرمن، الأولى أم الأخ في النسب حرام لأنها إما أم وإما زوج أب، وفي الرضاع قد تكون أجنبية فترضع الأخ فلا تحرم على أخيه. الثانية أم الحفيد. حرام في النسب لأنها إما بنت أو زوج ابن، وفي الرضاع قد تكون أجنبية فترضع الحفيد فلا تحرم على جده. الثالثة جدة الولد في النسب حرام لأنها إما أم أو أم زوجة، وفي الرضاع قد تكون أجنبية أرضعت الولد فيجوز لوالده أن يتزوجها. الرابعة أخت الولد حرام في النسب لأنها بنت أو ربيبة، وفي الرضاع قد تكون أجنبية فترضع الولد فلا تحرم على الوالد. وهذه الصور الأربع اقتصر عليها جماعة، ولم يستثن الجمهور شيئا من ذلك. وفي التحقيق لا يستثنى شيء من ذلك لأنهن لم يحرمن من جهة النسب وإنما حرمن من جهة المصاهرة. واستدرك بعض المتأخرين أم العم وأم العمة وأم الخال وأم الخالة فإنهن يحرمن في النسب لا في الرضاع وليس ذلك على عمومه والله أعلم. قال مصعب الزبيري: كانت ثويبة - يعني الآتي ذكرها في الحديث الذي بعده - أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أرضعت حمزة ثم أرضعت أبا سلمة. قلت: وبنت حمزة تقدم ذكرها وتسميتها في كتاب المغازي في شرح حديث البراء بن عازب في قوله " فتبعتهم بنت حمزة تنادي: يا عم " الحديث. وجملة ما تحصل لنا من الخلاف في اسمها سبعة أقوال: أمامة وعمارة وسلمى وعائشة وفاطمة وأمة الله ويعلى، وحكى المزي في أسمائها أم الفضل لكن صرح ابن بشكوال بأنها كنية. الحديث: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ فَقُلْتُ نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ ذَلِكِ لَا يَحِلُّ لِي قُلْتُ فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ قَالَ عُرْوَةُ وثُوَيْبَةُ مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ قَالَ لَهُ مَاذَا لَقِيتَ قَالَ أَبُو لَهَبٍ لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ الشرح: حديث أم حبيبة وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله (أنكح أختي) أي تزوج. قوله (بنت أبي سفيان) في رواية يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عند مسلم والنسائي في هذا الحديث " انكح أختي عزة بنت أبي سفيان " ولابن ماجه من هذا الوجه " انكح أختي عزة " وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث عند الطبراني أنها قالت " يا رسول الله هل لك في حمنة بنت أبي سفيان؟ قال: أصنع ماذا؟ قالت: تنكحها " وقد أخرجه المصنف بعد أبواب من رواية هشام لكن لم يسم بنت أبي سفيان، ولفظه " فقال فأفعل ماذا "؟ وفيه شاهد على جواز تقديم الفعل على " ما " الاستفهامية خلافا لمن أنكره من النحاة. وعند أبي موسى في " الذيل " درة بنت أبي سفيان، وهذا وقع في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان عن هشام، وأخرجه أبو نعيم والبيهقي من طريق الحميدي وقالا: أخرجه البخاري عن الحميدي، وهو كما قالا قد أخرجه عنه لكن حذف هذا الاسم وكأنه عمدا، وكذا وقع في هذه الرواية زينب بنت أم سلمة وحذفه البخاري أيضا منها ثم نبه على أن الصواب درة وسيأتي بعد أربعة أبواب، وجزم المنذري بأن اسمها حمنة كما في الطبراني. وقال عياض. لا نعلم لعزة ذكرا في بنات أبي سفيان إلا في رواية يزيد بن أبي حبيب. وقال أبو موسى: الأشهر فيها عزة. قوله (أو تحبين ذلك) ؟ هو استفهام تعجب من كونها تطلب أن يتزوج غيرها مع ما طبع عليه النساء من الغيرة. قوله (لست لك بمخلية) بضم الميم وسكون المعجمة وكسر اللام اسم فاعل من أخلى يخلي، أي لست بمنفردة بك ولا خالية من ضرة. وقال بعضهم هو بوزن فاعل الإخلاء متعديا ولازما، من أخليت بمعنى خلوت من الضرة، أي لست بمتفرغة ولا خالية من ضرة، وفي بعض الروايات بفتح اللام بلفظ المفعول حكاها الكرماني. وقال عياض. مخلية أي منفردة يقال أخل أمرك وأخل به أي انفرد به. وقال صاحب النهاية: معناه لم أجدك خاليا من الزوجات، وليس هو من قولهم امرأة مخلية إذا خلت من الأزواج. قوله (وأحب من شاركني) مرفوع بالابتداء أي إلى. وفي رواية هشام الآتية قريبا " من شركني " بغير ألف، وكذا في الباب الذي بعده، وكذا عند مسلم. قوله (في خير) كذا للأكثر بالتنكير أي أي خير كان. وفي رواية هشام " في الخير " قيل المراد به صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمنة لسعادة الدارين الساترة لما لعله يعرض من الغيرة التي جرت بها العادة بين الزوجات، لكن في رواية هشام المذكورة " وأحب من شركني فيك أخي " فعرف أن المراد بالخير ذاته صلى الله عليه وسلم. قوله (فإنا نحدث) بضم أوله وفتح الحاء على البناء للمجهول. وفي رواية هشام المذكورة " قلت بلغني " وفي رواية عقيل في الباب الذي بعدها " قلت يا رسول الله فوالله إنا لنتحدث " وفي رواية وهب عن هشام عند أبي داود " فوالله لقد أخبرت". قوله (أنك تريد أن تنكح) في رواية هشام الآتية " بلغني أنك تخطب " ولم أقف على اسم من أخبر بذلك، ولعله كان من المنافقين فإنه قد ظهر أن الخبر لا أصل له، وهذا مما يستدل به على ضعف المراسيل. قوله (بنت أبي سلمة) في رواية عقيل الآتية وكذا أخرجه الطبراني من طريق ابن أخي الزهري عن الزهري ومن طريق معمر عن هشام بن عروة عن أبيه ومن طريق عراك عن زينب بنت أم سلمة " درة بنت أبي سلمة " وهي بضم المهملة وتشديد الراء. وفي رواية حكاها عياض وخطأها بفتح المعجمة وعند أبي داود من طريق هشام عن أبيه عن زينب عن أم سلمة درة أو " ذرة " على الشك، شك زهير راوية عن هشام. ووقع عند البيهقي من رواية الحميدي عن سفيان عن هشام " بلغني أنك تخطب زينب بنت أبي سلمة " وقد تقدم التنبيه على خطئه. ووقع عند أبي موسى في " ذيل المعرفة " حمنة بنت أبي سلمة وهو خطأ، وقوله بنت أم سلمة هو استفهام استثبات لرفع الإشكال، أو استفهام إنكار، والمعنى أنها إن كانت بنت أبي سلمة من أم سلمة فيكون تحريمها من وجهين كما سيأتي بيانه، وإن كانت من غيرها فمن وجه واحد، وكأن أم حبيبة لم تطلع على تحريم ذلك إما لأن ذلك كان قبل نزول آية التحريم وإما بعد ذلك وظنت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال الكرماني، والاحتمال الثاني هو المعتمد، والأول يدفعه سياق الحديث، وكأن أم حبيبة استدلت على جواز الجمع بين الأختين بجواز الجمع بين المرأة وابنتها بطريق الأولى، لأن الربيبة حرمت على التأييد والأخت حرمت في صورة الجمع فقط، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأن ذلك لا يحل، وأن الذي بلغها من ذلك ليس بحق، وأنها تحرم عليه من جهتين. قوله (لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي) قال القرطبي: فيه تعليل الحكم بعلتين، فإنه علل تحريمها بكونها ربيبة وبكونها بنت أخ من الرضاعة، كذا قال، والذي يظهر أنه نبه على أنها لو كان بها مانع واحد لكفى في التحريم فكيف وبها مانعان فليس من التعليل بعلتين في شيء، لأن كل وصفين يجوز أن يضاف الحكم إلى كل منهما لو انفرد فإما أن يتعاقبا فيضاف الحكم إلى الأول منهما كما في السببين إذا اجتمعا، ومثاله لو أحدث ثم أحدث بغير تخلل طهارة فالحدث الثاني لم يعمل شيئا أو يضاف الحكم إلى الثاني كما في اجتماع السبب والمباشرة، وقد يضاف إلى أشبههما وأنسبهما سواء كان الأول أم الثاني، فعلى كل تقدير لا يضاف إليهما جميعا، وإن قدر أنه يوجد فالإضافة إلى المجموع ويكون كل منهما جزء علة لا علة مستقلة فلا تجتمع علتان على معلول واحد، هذا الذي يظهر والمسألة مشهورة في الأصول وفيها خلاف، قال القرطبي: والصحيح جوازه لهذا الحديث وغيره. وفي الحديث إشارة إلى أن التحريم بالربيبة أشد من التحريم بالرضاعة. وقوله "ربيبتي " أي بنت زوجتي، مشتقة من الرب وهو الإصلاح لأنه يقوم بأمرها، وقيل من التربية. وهو غلط من جهة الاشتقاق، وقوله "في حجري " راعى فيه لفظ الآية وإلا فلا مفهوم له، كذا عند الجمهور وأنه خرج مخرج الغالب، وسيأتي البحث فيه في باب مفرد. وفي رواية عراك عن زينب بنت أم سلمة عند الطبراني " لو أني لم أنكح أم سلمة ما حلت لي، إن أباها أخي من الرضاعة " ووقع في رواية ابن عيينة عن هشام " والله لو لم تكن ربيبتي ما حلت لي " فذكر ابن حزم أن منهم من احتج به على أن لا فرق بين اشتراط كونها في الحجر أو لا، وهو ضعيف لأن القصة واحدة والذين زادوا فيها لفظ " في حجري " حفاظ أثبات. قوله (أرضعتني وأبا سلمة) أي أرضعت أبا سلمة، وهو من تقديم المفعول على الفاعل. قوله (ثويبة) بمثلثة وموحدة ومصغر، كانت مولاة لأبي لهب بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في الحديث. قوله (فلا تعرضن) بفتح أوله وسكون العين وكسر الراء بعدها معجمة ساكنة ثم نون على الخطاب لجماعة النساء، وبكسر المعجمة وتشديد النون خطاب لأم حبيبة وحدها، والأول أوجه. وقال ابن التين: ضبط بضم الضاد في بعض الأمهات، ولا أعلم له وجها لأنه إن كان الخطاب لجماعة النساء وهو الأبين فهو بسكون الضاد لأنه فعل مستقبل مبني على أصله، ولو أدخلت عليه التأكيد فشددت النون لكان تعرضان لأنه يجتمع ثلاث نونات فيفرق بينهن بألف، وإن كان الخطاب لأم حبيبة خاصة فتكون الضاد مكسورة والنون مشددة. وقال القرطبي. جاء بلفظ الجمع وإن كانت القصة لاثنين وهما أم حبيبة وأم سلمة ردعا وزجرا أن تعود واحدة منهما أو غيرهما إلى مثل ذلك، وهذا كما لو رأى رجل امرأة تكلم رجلا فقال لها أتكلمين الرجال فإنه مستعمل شائع، وكان لأم سلمة من الأخوات قريبة زوج زمعة بن الأسود، وقريبة الصغرى زوج عمر ثم معاوية، وعزة بنت أبي أمية زوج منبه بن الحجاج، ولها من البنات زينب راوية الخبر، ودرة التي قيل إنها مخطوبة. وكان لأم حبيبة من الأخوات هند زوج الحارث بن نوفل، وجويرية زوج السائب بن أبي حبيش، وأميمة زوج صفوان بن أمية، وأم الحكم زوج عبد الله بن عثمان، وصخرة زوج سعيد بن الأخنس، وميمونة زوج عروة بن مسعود. ولها من البنات حبيبة وقد روت عنها الحديث ولها صحبة وكان لغيرهما من أمهات المؤمنين من الأخوات أم كلثوم وأم حبيبة ابنتا زمعة أختا سودة، وأسماء أخت عائشة، وزينب بنت عمر أخت حفصة وغيرهن، والله أعلم. قوله (قال عروة) هو بالإسناد المذكور، وقد علق المصنف طرفا منه في آخر النفقات فقال " قال شعيب عن الزهري قال عروة " فذكره. وأخرجه الإسماعيلي من طريق الذهلي عن أبي اليمان بإسناده. قوله (وثويبة مولاة لأبي لهب) قلت: ذكرها ابن منده في " الصحابة " وقال: اختلف في إسلامها. وقال أبو نعيم: لا نعلم أحدا ذكر إسلامها غيره، والذي في السير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرمها، وكانت تدخل عليه بعدما تزوج خديجة، وكان يرسل إليها الصلة من المدينة، إلى أن كان بعد فتح خيبر ماتت ومات ابنها مسروح. قوله (وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم) ظاهره أن عتقه لها كان قبل إرضاعها، والذي في السير يخالفه، وهو أن أبا لهب أعتقها قبل الهجرة وذلك بعد الإرضاع بدهر طويل وحكى السهيلي أيضا أن عتقها كان قبل الإرضاع، وسأذكر كلامه. قوله (أريه) بضم الهمزة وكسر الراء وفتح التحتانية على البناء للمجهول. قوله (بعض أهله) بالرفع على أنه النائب عن الفاعل. وذكر السهيلي أن العباس قال: لما مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شر حال فقال: ما لقيت بعدكم راحة، إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين، قال: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، وكانت ثويبة بشرت أبا لهب بمولده فأعتقها. قوله (بشر حيبة) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة أي سوء حال. وقال ابن فارس: أصلها الحوبة وهي المسكنة والحاجة، فالياء في حيبة منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها. ووقع في " شرح السنة للبغوي " بفتح الحاء، ووقع عند المستملي بفتح الخاء المعجمة أي في حالة خائبة من كل خير. وقال ابن الجوزي: هو تصحيف. وقال القرطبي: يروى بالمعجمة، ووجدته في نسخة معتمدة بكسر المهملة وهو المعروف، وحكى في " المشارق " عن رواية المستملي بالجيم ولا أظنه إلا تصحيفا، وهو تصحيف كما قال. قوله (ماذا لقيت) أي بعد الموت. قوله (لم ألق بعدكم، غير أني) كذا في الأصول بحذف المفعول. وفي رواية الإسماعيلي " لم ألق بعدكم رخاء " وعند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري " لم ألق بعدكم راحة " قال ابن بطال: سقط المفعول من رواية البخاري، ولا يستقيم الكلام إلا به. قوله (غير أني سقيت في هذه) كذا في الأصول بالحذف أيضا، ووقع في رواية عبد الرزاق المذكورة " وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه وفي رواية الإسماعيلي المذكورة وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع " وللبيهقي في الدلائل من طريق. كذا مثله بلفظ " يعني النقرة إلخ " وفي ذلك إشارة إلى حقارة ما سقي من الماء. قوله (بعتاقتي) بفتح العين، في رواية عبد الرزاق " بعتقي " وهو أوجه والوجه الأولى أن يقول بإعتاقي، لأن المراد التخليص من الرق. وفي الحديث دلالة عل أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة؛ لكنه مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعال وقال البيهقي: ما ورد من بطلان الخير للكفار فمعناه أنهم لا يكون لهم التخلص من النار ولا دخول الجنة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات. وأما عياض فقال: انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب؛ وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض. قلت: وهذا لا يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقي، فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر فما المانع من تخفيفه؟ وقال القرطبي: هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه. وقال ابن المنير في الخاشية: هنا قضيتان إحداهما محال وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره، لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر. الثانية إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضلا من الله تعالى، وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضل الله عليه بما شاء كما تفضل علي أبي طالب، والمتبع في ذلك التوقيف نفيا وإثباتا. قلت: وتتمة هذا أن يقع التفضل المذكور إكراما لمن وقع من الكافر البر له ونحو ذلك، والله أعلم *3* لِقَوْلِهِ تَعَالَى حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ الشرح: قوله (باب من قال لا رضاع بعد حولين، لقوله عز وجل والمشهور عند الجمهور أنها تقدير مدة أقل الحمل وأكثر مدة الرضاع، وإلى ذلك صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ويؤيد ذلك أن أبا حنيفة لا يقول إن أقصى الحمل سنتان ونصف. وعند المالكية رواية توافق قول الحنفية لكن منزعهم في ذلك أنه يغتفر بعد الحولين مدة يدمن الطفل فيها على الفطام، لأن العادة أن الصبي لا يفطم دفعة واحدة بل على التدريج في أيام قليلات، فللأيام التي يحاول فيها فطامه حكم الحولين. ثم اختلفوا في تقدير تلك المدة قيل يغتفر نصف سنة، وقيل شهران، وقيل شهر ونحوه، وقيل أيام يسيرة، وقيل شهر، وقيل لا يزاد على الحولين وهي رواية ابن وهب عن مالك وبه قال الجمهور ومن حجتهم حديث ابن عباس رفعه " لا رضاع إلا ما كان في الحولين " أخرجه الدار قطني. وقال: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. وأخرجه ابن عدي. وقال غير الهيثم يوقفه على ابن عباس وهو المحفوظ، وعندهم متى وقع الرضاع بعد الحولين ولو بلحظة لم يترتب عليه حكم، وعند الشافعية لو ابتدأ الوضع في أثناء الشهر جبر المنكسر من شهر آخر ثلاثين يوما. وقال زفر: يستمر إلى ثلاث سنسن إذا كان يجتزئ باللبن ولا يجتزئ بالطعام، وحكى ابن عبد البر عنه أنه يشترط مع ذلك أن يكون يجتزئ باللبن، وحكى عن الأوزاعي مثله لكن قال. بشرط أن لا يفطم، فمتى فطم ولو قبل الحولين فما رضع بعده لا يكون رضاعا. قوله (وما يحرم من قليل الرضاع وكثيره) هذا مصير منه إلى التمسك بالعموم الوارد في الأخبار مثل حديث الباب وغيره، وهذا قول مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث، وهو المشهور عند أحمد. وذهب آخرون إلى أن الذي يحرم ما زاد على الرضعة الواحدة. ثم اختلفوا فجاء عن عائشة عشر رضعات أخرجه مالك في " الموطأ"، وعن حفصة كذلك، وجاء عن عائشة أيضا سبع رضعات أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير عنها، وعبد الرزاق من طريق عروة " كانت عائشة تقول لا يحرم دون سبع رضعات أو خمس رضعات " وجاء عن عائشة أيضا خمس رضعات، فعند مسلم عنها " كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نسخت بخمس رضعات معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ " وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عنها قالت: لا يحرم دون خمس رضعات معلومات، وإلى هذا ذهب الشافعي، وهي رواية عن أحمد. وقال به ابن حزم، وذهب أحمد في رواية وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وداود وأتباعه - إلا ابن حزم - إلى أن الذي يحرم ثلاث رضعات لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تحرم الرضعة والرضعتان " فإن مفهومه أن الثلاث تحرم، وأغرب القرطبي. فقال: لم يقل به إلا داود. ويخرج مما أخرجه البيهقي عن زيد بن ثابت بإسناد صحيح أنه يقول لا تحرم الرضعة والرضعتان والثلاث، وأن الأربع هي التي تحرم. والثابت من الأحاديث حديث عائشة في الخمس، وأما حديث " لا تحرم الرضعة والرضعتان " فلعله مثال لما دون الخمس، وإلا فالتحريم بالثلاث فما فوقها إنما يؤخذ من الحديث بالمفهوم، وقد عارضه مفهوم الحديث الآخر المخرج عند مسلم وهو الخمس، فمفهوم " لا تحرم المصة ولا المصتان " أن الثلاث تحرم، ومفهوم خمس رضعات أن الذي دون الأربع لا يحرم فتعارضا، فيرجع إلى الترجيح بين المفهومين، وحديث الخمس جاء من طرق صحيحة، وحديث المصتان جاء أيضا من طرق صحيحة، لكن قد قال بعضهم إنه مضطرب لأنه اختلف فيه هل هو عن عائشة أو عن الزبير أو عن ابن الزبير أو عن أم الفضل، لكن لم يقدح الاضطراب عند مسلم فأخرجه من حديث أم الفضل زوج العباس " أن رجلا من بني عامر قال: يا رسول الله هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال لا " وفي رواية له عنها " لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ولا المصة ولا المصتان " قال القرطبي: هو أنص ما في الباب، إلا أنه يمكن حمله على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع، وقوى مذهب الجمهور بأن الأخبار اختلفت في العدد، وعائشة التي روت ذلك قد اختلف عليها فيما يعتبر من ذلك فوجب الرجوع إلى أقل ما ينطلق عليه الاسم، ويعضده من حيث النظر أنه معنى طارئ يقتضي تأييد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر، أو يقال مائع يلج الباطن فيحرم فلا يشترط فيه العدد كالمني، والله أعلم. وأيضا فقول عائشة " عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ " لا ينتهض للاحتجاج على الأصح من قولي الأصوليين، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والراوي روى هذا على أنه قرآن لا خبر فلم يثبت كونه قرآنا ولا ذكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَشْعَثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فَقَالَتْ إِنَّهُ أَخِي فَقَالَ انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ الشرح: قوله (عن الأشعث) هو ابن أبي الشعثاء واسمه سليم بن الأسود المحاربي الكوفي. قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل) لم أقف على اسمه وأظنه ابنا لأبي القعيس، وغلط من قال هو عبد الله بن يزيد رضيع عائشة لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة، وكأن أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم فولدته فلهذا قيل له رضيع عائشة. قوله (فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك) كذا فيه، ووقع في رواية مسلم من طريق أبي الأحوص عن أشعث " وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه " وفي رواية أبي داود عن حفص بن عمر عن شعبة " فشق ذلك عليه وتغير وجهه " وتقدم من رواية سفيان الماضية في الشهادات " فقال: يا عائشة من هذا "؟ . قوله (فقالت إنه أخي) في رواية غندر عن شعبة " إنه أخي من الرضاعة " أخرجه الإسماعيلي، وقد أخرجه أحمد عن غندر بدونها، وتقدم في الشهادات من طريق سفيان الثوري عن أشعث فذكرها، وكذا ذكرها أبو داود في روايته من طريق شعبة وسفيان جميعا عن الأشعث. قوله (انظرن ما إخوانكن) في رواية الكشميهني " من إخوانكن " وهي أوجه، والمعنى تأملن ما وقع من ذلك هل هو رضاع صحيح بشرطه: من وقوعه في زمن الرضاعة، ومقدار الارتضاع فإن الحكم الذي ينشأ من الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط. قال المهلب: معناه انظرن ما سبب هذه الأخوة، فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسد الرضاعة المجاعة. وقال أبو عبيد: معناه أن الذي جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع. قوله (فإنما الرضاعة من المجاعة) فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر، لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرما. وقوله "من المجاعة " أي الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلا لسد اللبن جوعته، لأن معتده ضعيفة يكفيها اللبن وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة أو المطعمة من المجاعة، كقوله تعالى ويمكن أن يستدل به على أن الرضعة الواحدة لا تحرم لأنها لا تغني من جوع، وإذا كان يحتاج إلى تقدير فأولى ما يؤخذ به ما قدرته الشريعة وهو خمس رضعات، واستدل به على أن التغذية بلبن المرضعة يحرم سواء كان بشرب أم أكل بأي صفة كان، حتى الوجور والسعوط والثرد والطبخ وغير ذلك إذا وقع ذلك بالشرط المذكور من العدد لأن ذلك يطرد الجوع، وهو موجود في جميع ما ذكر فيوافق الخبر والمعنى وبهذا قال الجمهور. لكن استثنى الحنفية الحقنة وخالف في ذلك الليث وأهل الظاهر فقالوا إن الرضاعة المحرمة إنما تكون بالتقام الثدي ومص اللبن منه، وأورد على ابن حزم أنه يلزم على قولهم إشكال في التقام سالم ثدي سهلة وهي أجنبية منه، فإن عياضا أجاب عن الإشكال باحتمال أنها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها، قال النووي: وهو احتمال حسن، لكنه لا يفيد ابن حزم، لأنه لا يكتفي في الرضاع إلا بالتقام الثدي، لكن أجاب النووي بأنه عفي عن ذلك للحاجة. وأما ابن حزم فاستدل بقصة سالم على جواز مس الأجنبي ثدي الأجنبية والتقام ثديها إذا أراد أن يرتضع منها مطلقا؛ واستدل به على أن الرضاعة إنما تعتبر في حال الصغر لأنها الحال الذي يمكن طرد الجوع فيها باللبن بخلاف حال الكبر، وضابط ذلك تمام الحولين كما تقدم في الترجمة، وعليه دل حديث ابن عباس المذكور وحديث أم سلمة " لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام " وصححه الترمذي وابن حبان، قال القرطبي: في قوله " فإنما الرضاعة من المجاعة " تثبيت قاعدة كلية صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستغنى به الرضيع عن الطعام باللبن، ويعتضد بقوله تعالى قلت: وهذا الأخير على الغالب وعلى مذهب من يشترط التقام الثدي، وقد تقدم قبل خمسة أبواب أن عائشة كانت لا تفرق في حكم الرضاع بين حال الصغر والكبر، وقد استشكل ذلك مع كون هذا الحديث من روايتها واحتجت هي بقصة سالم موالي أبي حذيفة فلعلها فهمت من قوله " إنما الرضاعة من المجاعة اعتبار مقدار ما يسد الجوعة من لبن المرضعة لمن يرتضع منها، وذلك أعم من أن يكون المرتضع صغيرا أو كبيرا فلا يكون الحديث نصا في منع اعتبار رضاع الكبير، وحديث ابن عباس مع تقدير ثبوته ليس نصا في ذلك ولا حديث أم سلمة لجواز أن يكون المراد أن الرضاع بعد الفطام ممنوع، ثم لو وقع رتب عليه حكم التحريم، فما في الأحاديث المذكورة ما يدفع هذا الاحتمال، فلهذا عملت عائشة بذلك، وحكاه النووي تبعا لابن الصباغ وغيره عن داود. وفيه نظر. وكذا نقل القرطبي عن داود أن رضاع الكبير يفيد رفع الاحتجاب منه، ومال إلى هذا القول ابن المواز من المالكية. وفي نسبة لداود نظر فإن ابن حزم ذكر عن داود أنه مع الجمهور، وكذا نقل غيره من أهل الظاهر وهم أخبر بمذهب صاحبهم، وإنما الذي نصر مذهب عائشة هذا وبالغ في ذلك هو ابن حزم ونقله عن علي، وهو من رواية الحارث الأعور عنه، ولذلك ضعفه ابن عبد البر. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: قال رجل لعطاء أن امرأة سقتني من لبنها بعدما كبرت أفأنكحها؟ قال: لا. قال ابن جريج: فقلت له: هذا رأيك؟ قال: نعم. كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها، وهو قول الليث بن سعد. وقال ابن عبد البر: لم يختلف عنه في ذلك. قلت: وذكر الطبري في " تهذيب الآثار " في مسند على هذه المسألة وساق بإسناده الصحيح عن حفصة مثل قول عائشة، وهو مما يخص به عموم قول أم سلمة " أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدا " أخرجه مسلم وغيره، ونقله الطبري أيضا عن عبد الله بن الزبير والقاسم بن محمد وعروة في آخرين، وفيه تعقب على القرطبي حيث خص الجواز بعد عائشة بداود، وذهب الجمهور إلى اعتبار الصغر في الرضاع المحرم وقد تقدم ضبطه، وأجابوا عن قصة سالم بأجوبة: منها أنه حكم منسوخ وبه جزم المحب الطبري في أحكامه، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة فدل على تأخرها، وهو مستند ضعيف إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدما، وأيضا ففي سياق قصة سالم ما يشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين لقول امرأة أبي حذيفة في بعض طرقه حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم " أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير " وفي رواية لمسلم قالت " إنه ذو لحية، قال: أرضعيه " وهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبر في الرضاع المحرم. ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما كان وقع من التبني الذي أدى إلى اختلاط سالم بسهلة، فلما نزل الاحتجاب ومنعوا من التبني شق ذلك على سهلة فوقع الترخيص لها في ذلك لرفع ما حصل لها من المشقة، وهذا فيه نظر لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتجاج بها فتنفي الخصوصية ويثبت مذهب المخالف، لكن يفيد الاحتجاج. وقرره آخرون بأن الأصل أن الرضاع لا يحرم، فلما ثبت ذلك في الصغر خولف الأصل له وبقي ما عداه على الأصل، وقصة سالم واقعة عين يطرقها احتمال الخصوصية فيجب الوقوف عن الاحتجاج بها. ورأيت بخط تاج الدين السبكي أنه رأى في تصنيف لمحمد بن خليل الأندلسي في هذه المسألة أنه توقف في أن عائشة وإن صح عنها الفتيا بذلك لكن لم يقع منها إدخال أحد من الأجانب بتلك الرضاعة، قال تاج الدين: ظاهر الأحاديث ترد عليه، وليس عندي فيه قول جازم لا من قطع ولا من ظن غالب، كذا قال، وفيه غفلة عما ثبت عند أبي داود في هذه القصة " فكانت عائشة تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها ويراها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها " وإسناده صحيح، وهو صريح، فأي ظن غالب وراء هذا؟ والله سبحانه وتعالى أعلم. وفي الحديث أيضا جواز دخول من اعترفت المرأة بالرضاعة معه عليها وأنه يصير أخا لها وقبول قولها فيمن اعترفت به، وأن الزوج يسأل زوجته عن سبب إدخال الرجال بيته والاحتياط في ذلك والنظر فيه، وفي قصة سالم جواز الإرشاد إلى الحيل. وقال ابن الرفعة يؤخذ منه جواز تعاطي ما يحصل الحل في المستقبل وإن كان ليس حلالا في الحال. الشرح: قوله (باب لبن الفحل) بفتح الفاء وسكون المهملة، أي الرجل، ونسبة اللبن إليه مجازية لكونه السبب فيه. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا وَهُوَ عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ الشرح: قوله (عن ابن شهاب) لمالك فيه شيخ آخر وهو هشام بن عروة، وسياقه للحديث عن عروة أتم، وسيأتي قبيل كتاب الطلاق. قوله (إن أفلح أخا أبي القعيس) بقاف وعين وسين مهملتين مصغر، وتقدم في الشهادات من طريق الحكم عن عروة " استأذن علي أفلح فلم آذن له " وفي رواية مسلم من هذا الوجه أفلح بن قعيس والمحفوظ أفلح أخو أبي القعيس، ويحتمل أن يكون اسم أبيه قعيسا أو اسم جده فنسب إليه فتكون كنية أبي القعيس وافقت اسم أبيه أو اسم جده، ويؤيده ما وقع في الأدب من طريق عقيل عن الزهري بلفظ " فإن أخا بني القعيس " وكذا وقع عند النسائي من طريق وهب بن كيسان عن عروة، وقد مضى في تفسير الأحزاب من طريق شعيب عن ابن شهاب بلفظ " إن أفلح أخا أبي القعيس " وكذا لمسلم من طريق يونس ومعمر عن الزهري، وهو المحفوظ عن أصحاب الزهري، لكن وقع عند مسلم من رواية ابن عيينة عن الزهري أفلح بن أبي القعيس، وكذا لأبي داود من طريق الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه، ولمسلم من طريق ابن جريج عن عطاء " أخبرني عروة أن عائشة قالت استأذن علي عمي من الرضاعة أبو الجعد " قال فقال لي هشام: إنما هو أبو القعيس. وكذا وقع عند مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام " استأذن عليها أبو القعيس " وسائر الرواة عن هشام قالوا أفلح أخو أبي القعيس كما هو المشهور، وكذا قال سائر أصحاب عروة، ووقع عند سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد " أن أبا قعيس أتى عائشة يستأذن عليها " وأخرجه الطبراني في " الأوسط " من طريق القاسم عن أبي قعيس، والمحفوظ أن الذي استأذن هو أفلح وأبو القعيس هو أخوه، قال القرطبي: كل ما جاء من الروايات وهم إلا من قال أفلح أخو أبي القعيس أو قال أبو الجعد لأنها كنية أفلح. قلت: وإذا تدبرت ما حررت عرفت أن كثيرا من الروايات لا وهم فيه ولم يخطئ عطاء في قوله أبو الجعد فإنه يحتمل أن يكون حفظ كنية أفلح، وأما اسم أبي القعيس فلم أقف عليه إلا في كلام الدار قطني فقال: هو وائل بن أفلح الأشعري، وحكى هذا ابن عبد البر ثم حكى أيضا أن اسمه الجعد، فعلى هذا يكون أخوه وافق اسمه اسم أبيه، ويحتمل أن يكون أبو القعيس نسب لجده ويكون اسمه وائل بن قعيس بن أفلح بن القعيس، وأخوه أفلح بن قعيس بن أفلح أبو الجعد، قال ابن عبد البر في " الاستيعاب ": لا أعلم لأبي القعيس ذكرا إلا في هذا الحديث. قوله (وهو عمها من الرضاعة) فيه التفات، وكان السياق يقتضي أن يقول " وهو عمي " وكذا وقع عند النسائي من طريق معن عن مالك. وفي رواية يونس عن الزهري عند مسلم " وكان أبو القعيس أخا عائشة من الرضاعة". قوله (فأبيت أن آذن له) في رواية عراك الماضية في الشهادات " فقال أتحتجبين مني وأنا عمك "؟ وفي رواية شعيب عن الزهري كما مضى في تفسير سورة الأحزاب " فقلت: لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس " وفي رواية معمر عن الزهري عن مسلم " وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة". قوله (فأمرني أن آذن له) في رواية شعيب " ائذني له فإنه عمك تربت يمينك " وفي رواية سفيان يداك أو يمينك، وقد تقدم شرح هذه اللفظة في " باب الأكفاء في الدين " وفي رواية مالك عن هشام بن عروة " إنه عمك فليلج عليك " وفي رواية الحكم " صدق أفلح، ائذني له " ووقع في رواية سفيان الثوري عن هشام عند أبي داود " دخل علي أفلح فاستترت منه فقال أتستترين مني وأنا عمك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي، قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل " الحديث، ويجمع بأنه دخل عليها أولا فاستترت ودار بينهما الكلام، ثم جاء يستأذن ظنا منه أنها قبلت قوله فلم تأذن له حتى تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية شعيب في آخره من الزيادة " قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب " ووقع في رواية سفيان بن عيينة " ما تحرمون من النسب " وهذا ظاهره الوقف، وقد أخرجه مسلم من طريق يزيد بن أبي حبيب عن عراك عن عروة في هذه القصة " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحتجبي منه، فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " وقد تقدمت هذه الزيادة عن عائشة أيضا مرفوعة من وجه آخر في أول أبواب الرضاع. وفي الحديث أن لبن الفحل يحرم فتنتشر الحرمة من ارتضع الصغير بلبنه، فلا تحل له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلا، وفيه خلاف قديم حكي عن ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة وغيرهم، ونقله ابن بطال عن عائشة وفيه نظر، ومن التابعين عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والشعبي وإبراهيم النخعي وأبي قلابة وإياس بن معاوية أخرجها ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر، وعن ابن سيرين " نبئت أن ناسا من أهل المدينة اختلفوا فيه " وعن زينب بنت أبي سلمة أنها سألت والصحابة متوافرون وأمهات المؤمنين فقالوا الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا. وقال به من الفقهاء ربيعة الرأي وإبراهيم بن عليه وابن بنت الشافعي وداود وأتباعه، وأغرب عياض ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود وإبراهيم مع وجود الرواية عمن ذكرنا بذلك، وحجتهم في ذلك قوله تعالى واحتج بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟ والجواب أنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، وأيضا فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معا فوجب أن يكون الرضاع منهما كالجد لما كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده، وإلى هذا أشار ابن عباس بقوله في هذه المسألة " اللقاح واحد " أخرجه ابن أبي شيبة. وأيضا فإن الوطء يدر اللبن فللفحل فيه نصيب. وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار كالأوزاعي في أهل الشام والثوري وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة وابن جريج في أهل مكة ومالك في أهل المدينة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأتباعهم إلى أن لبن الفحل يحرم وحجتهم هذا الحديث الصحيح، وألزم الشافعي المالكية في هذه المسألة برد أصلهم بتقديم عمل أهل المدينة ولو خالف الحديث الصحيح إذا كان من الآحاد لما رواه عن عبد العزيز بن محمد عن ربيعة من أن لبن الفحل لا يحرم، قال عبد العزيز بن محمد: وهذا رأي فقهائنا إلا الزهري فقال الشافعي: لا نعلم شيئا من علم الخاصة أولى بأن يكون عاما ظاهرا من هذا، وقد تركوه للخبر الوارد، فيلزمهم على هذا إما أن يردوا هذا الخبر وهم ولم يردوه أو يردوا ما خالف الخبر، وعلى كل حال هو المطلوب. قال القاضي عبد الوهاب: يتصور تجريد لبن الفحل برجل له امرأتان ترضع إحداهما صبيا والأخرى صبية فالجمهور قالوا يحرم على الصبي تزويج الصبية. وقال من خالفهم: يجوز، واستدل به على أن من ادعى الرضاع وصدقه الرضيع يثبت حكم الرضاع بينهما ولا يحتاج إلى بينه، لأن أفلح ادعى وصدقته عائشة وأذن الشارع بمجرد ذلك. وتعقب باحتمال أن يكون الشارع اطلع على ذلك من غير دعوى أفلح وتسليم عائشة، واستدل به على أن قليل الرضاع يحرم كما يحرم كثيره لعدم الاستفصال فيه، ولا حجة فيه لأن عدم الذكر لا يدل على العدم المحض وفيه أن من شك في حكم يتوقف عن العمل حتى يسأل العلماء عنه، وأن من اشتبه عليه الشيء طالب المدعي ببيانه ليرجع إليه أحدهما، وأن العالم إذا سئل يصدق من قال الصواب فيها، وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب ومشروعية استئذان المحرم على محرمه، وأن المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلا بإذنه، وفيه جواز التسمية بأفلح، ويؤخذ منه أن المستفتي إذا بادر بالتعليل قبل سماع الفتوى أنكر عليه لقوله لها " تربت يمينك " فإن فيه إشارة إلى أنه كان من حقها أن تسأل عن الحكم فقط ولا تعلل، وألزم به بعضهم من أطلق من الحنفية القائلين أن الصحابي إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا وصح عنه ثم صح عنه العمل بخلافه أن العمل بما رأى لا بما روى، لأن عائشة صح عنها أن لا اعتبار بلبن الفحل ذكره مالك في الموطأ وسعيد بن منصور في السنن وأبو عبيد في كتاب النكاح بإسناد حسن، وأخذ الجمهور ومنهم الحنفية بخلاف ذلك وعملوا بروايتها في قصة أخي أبي القعيس وحرموه بلبن الفحل فكان يلزمهم على قاعدتهم أن يتبعوا عمل عائشة ويعرضوا عن روايتها، ولو كان روى هذا الحكم غير عائشة لكان لهم معذرة لكنه لم يروه غيرها، وهو إلزام قوي
|